الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ... وبعد:
إن إعمال عبادة التدبر والنظر والتفكر أمر مأمورٌ به شرعاً قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}، وقال عز وجل: {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}، وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ}، وقال تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}، وقال عز وجل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، والآيات في هذا الشأن والسياق كثيرة عديدة، لذا دعونا نمارس هذه العبادة في معرض شرح الحديث الصحيح " لا تقوم الساعة ...حتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً ".
قررت في الحلقة الأولى أن شرح الحديث سيكون من خلال نافذتين زمنيتين؛ تحدثت عن النافذة الزمنية الأولى في الحلقة الثانية والمتعلقة بالتاريخ الطبيعي لأرض العرب قبل آلاف السنيين. وفي هذه الحلقة (الثالثة) وما بعدها نواصل التأمل في الحديث عبر نافذة زمنية شائكة وصعبة ألا وهي المستقبل. وهي محاولة للتصدي لسؤال صعب وكبير ومتشعب ... كيف ومتى ستعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً كما كانت قبل آلاف السنين؟.
بعد تأمل الحديث السابق لسنوات طويلة ومحاولة فك أسراره المختزلة في قوله صلى الله عليه وسلم (تعود) استعنت بالله الفتاح المعين في محاولة اجتهادية في تلمس فرضيات أو سناريوهات (العودة) المتوقعة والمرجحة ... حتى تراكمت عندي صور العودة من خلال تأمل طويل دام عقدين من الزمن... قادتني إلى ترشيح بضع فرضيات.
وقبل أن نتناول الفرضيات ألتمس من القارئ الكريم العذر في القصور في التصوير، أو التعبير في موضوعٍ مصادره التأمل، ومراجعه الاستقراء، ومضانه التفكر والتدبر {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} ... كما أن هذه محاولة اجتهادية لتفسير الحديث الشريف، أسأل الكريم المنان أن يهب لي أجر الصواب كما الاجتهاد إنه جواد كريم.
الفرضية الأولى: انفجار براكين عظيمة
قال المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح " لا تقوم الساعة...حتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً ". وقد تكون عودة أرض العرب مروجاً وأنهاراً نتيجة ـ والله وحده أعلم ـ لحدث كوني عظيم يتسبب في تغيير مجريات الأحوال الجوية العامة لكوكب الأرض. وقد يكون ذلك بسبب انفجار البراكين الخامدة والضخمة في جزيرة العرب، أو براكين جاوة أو الفلبين أو الآسكا أو غيرها من البراكين الأرضية الضخمة. وهذه الفرضية الأولى التي قد تكون السبب في عودة أرض العرب مروجاً وأنهاراً. والسؤال: كيف سيكون هذا؟ وأين؟ ومتى؟ هذا ما سنتناوله في هذه الحلقة وما بعدها بإذن الله تعالى.
براكين الجزيرة
صورة جوية تضم ثمان فوهات بركانية خامدة في حرة كشب جنوب مهد الذهب في السعودية.
تجثم فوق جزيرة العرب وبالتحديد فوق الدرع العربي مئات البراكين العظيمة الخامدة منذ مئات بل وآلاف السنين، حيث يقدر العلماء وقت نشوئها إبان انفصال أرض العرب عن قارة أفريقيا، ونشوء البحر الأحمر قبل ما يقارب 25 مليون سنة والله أعلم. ويبلغ عدد البراكين فقط في منطقة المدينة المنورة حوالي 400 بركان، وعلى مستوى الحرات الواقعة في السعودية تبلغ حوالي 2000 بركان جاثمة فوق الدرع العربي.1 وتقدر مساحة الحرات والمسكوبات البركانية في الجزيرة العربية بـ 180000كم2 أي مايعادل مساحة سوريا.
أكبر وأعظم فوهة بركان في الجزيرة العربية فوهة الوعبه Âlwahbah 2 (مقلع طمية) والذي يصل قطره حوالي 2كم وعمقه أكثر من 200م، ويقع في حرة كشب إلى شمال شرق الطائف. ومن شدة وقوة انفجاره الأخير فجر ودمر الفوهة والجبل من حوله وبقي منها جزء يسير يُشاهد في أسفل يسار الصورة ولله في خلقه شؤون.
ويشار إلى أن آخر انفجار بركاني عظيم في الجزيرة العربية وقع إلى جنوب شرق المدينة المنورة، شمال حرة رهط عام 654 هـ 1256م. حيث استمر الحدث لعدة أيام، وسارت اللابة (الحمم البركانية) Lava لمسافة 23كم! في اتجاهات جغرافية مختلفة معظمها شمالي، وتوقف أطول لسان للحمم قبل المدينة المنورة بـ 8.2كم فقط إلى الشرق من المدينة (أنظر الصورة الفضائية). ولقد سبق الإنفجار وتزامن معه هزات أرضية قوية مخيفة ارتجت بسببها الأسوار، وقرقعت لها الأسقف، وسُمع لها أصوات كأصوات الرعود القاصفات، في مشهد ألقى بروعه على قاطني المدينة قاطبة. وذكر المؤرخون أن هذا الانفجار البركاني هو المقصود بالحديث الشريف (لا تقوم الساعة، حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى) [البخاري ومسلم].
|